الجمعة، 1 نوفمبر 2019

بقلم الشاعرة فادية حسون

أضغاث أحلام....
دسست حلمي بين صفحات الغيب ... لونته بلون الأمنيات الوردية ... نثرت فوقه شيئا من عبق الرجاء .. ثم أسبلت أهداب القلب وغفوت فوق وسادة محشوة بالأحلام.. وبدأت أحلق فوق سماء وطني المتسم بالخراب .. حاولت إيقاظ طيور الفرح النافقة على أسطحة المنازل المهجورة  .. لكنني تعثرت بقلوب أقلعت عن النبض منذ زمن ليس ببعيد .. حاولت مسح دموع طفل يتجرع كؤوس اليتم والمرار ... لكن رزمة مناديلي المكدسة في جعبتي  أعلنت فرط الابتلال  ... دخلت مجالس العزاء ..فرأيتها خالية إلا من أنين بعض النساء المتشحات بالسواد ... تقطر من وجوههن ملامح الثكل والتأيم وغياب الأحباب ... حاولت عبثا إخراج مفردات العزاء من معجمي الذي أعلن الإفلاس ... أشاحت النسوة بوجوههن عن كتلة من العجز تدعى " أنا " .. مضيت جارة ورائي ذيولا من الخيبة والبلاهة .. ففي حضرة الثكالى يتلعثم اللسان ويجمد الكلام .. وفي حضرة الأيامى يجبن الفكر وتتخبط المفردات فوق شفاهي الخائبة ... وتضاءل حزني أمام أحزانهن العملاقة ... وخرجت هائمة على وجهي ..ذهبت بي قدماي إلى حينا المقفر ... كانت أفكاري تهرول أمامي كفأر متوجس يخشى أن يدركه قط مخاوفي المتربص وراء باب بيتنا .. اقتربت من البيت الحزين  فتحت الباب بيدين حذرتين ..وأنا أخشى ألا تهاجمني العناكب التي بنت أعشاشها على حواف الباب .. احتجاجا منها  على جرأتي غير المشروعة  ..وكأنها تعلن ملكيتها لبيتنا بعد أن سقطت ملكيتنا له بالتقادم ... دخلت إلى ساحة دارنا ذات القبة السماوية ... فتعثرت بأكداس من أوراق الليمون  اليابسة  ..تتربع فوق صفحاتها الشاحبة صورة الحياة المتلاشية لحظة غياب الأيدي التي كانت تمن عليها بالارواء
... نظرت إلى ورود الدار التي كانت ميدانا تمارس أمي فيه طقوس فرحها اليومي .. فرأيتها تنطق بالموت المؤكد ..بعد ان كانت إبتسامة أمي تتسيد أكمام الزهور ... ويتوغل  عبقها الآسر في  أنوف المارة من جانب البيت .. فتسلل البهجة إلى نفوسهم .. وتنفرج أساريرهم  .. كفكفت مطر العيون بيدين ترتعدان ألما وحنينا ... تهالكت روحي فوق ركام من الأحلام المنهارة ...كان شعوري بالعجز يغطي كياني بطبقات من الجبن والشلل الفكري .. حاولت عبثا منع فكري من التجول في ساحات الذكريات الموجعة  .. أرخيت جسدي المنهك على كرسي كان يخص أمي الحبيبة .. فتطايرت من تحتي غبار الهجر والنسيان ..وتغلغلت في انفي المحشو بروائح الفقد والحرمان ... كان صدى صوتها منقوشا على جدران البيت ..يناديني باسمي بنفس طريقتها المعتادة ... فأجفل من أعماق روحي ... وألتفت في كل الاتجاهات ..باحثة عن مصدر صوت أمي الملائكي .. الغائر في أطنان من الإسمنت المنتصب كتمثال بلا حياة .. تأملت النوافذ والابواب المقفلة والجدران .. كل شبر من منزلنا كان يروي لي قصة محملة بألاف الغصات ... قصة كل فرد من أهل بيتي الراحلين .. تاركين وراءهم رزما من الأحلام المستلقية في فراش شائك منسوج من خيوط الخيبة المترامية عند أعتاب الهجر والنكران .. نهضت بحزن وأنا أنفض عن ثيابي غبارا تأبى إلا التشبث بي وكأنها تناشدني ألا أرحل من جديد .. فقد أحسست بأن وجودي يؤنس وحدتها ويخرجها من عزلتها المقيتة ..  خرجت دون أن ألتفت للوراء .. علني أتجاهل مفردات اللوم التي تنطق بها أحجار البيت المهجور .. وعلني أفلت من قوافل الغبار التي تشعرني بخيبتي وانكساري ... أقفلت الباب ثانية .... أرهقني جدا شعوري بالجحود .. كدت أسقط أرضا وأنا ألملم بقايا روحي العالقة هنا وهناك ..  ثم تابعت المسير  .. وتهت في طرقات مدينتي المسيجة بأشواك الرحيل .. التقطت عيناي صورا تأبى ذاكرتي نسيانها .. بل ستبقى مرجعا لآلامي المخزنة على بطاقة إنسانيتي الضطهدة عند عتبة القرار الموجع ... " قرار الرحيل "  ..  ثم لم أر بدا من إعادة التحليق ... لأعود إلى حلمي المخبأ في وسادة الأمنيات ..لأوقظه وأبث فيه روح الأمل المتلاشي في زحمة الخراب .. ولأهمس في أذن الحلم كلماتي المحملة بشوقي الذي يفوق شوق العاشق لرؤية محبوبته بعد طول انتظار ... وشوق العطشان  في صحراء قاحلة لرؤية واحة خضراء .. يستفيئ بظلها استجارة من الرمضاء الحارقة ... ورفعت أكف التوسل لرب الأرض والسماء  .. بأن يعيدني إلى بيتي الحبيب .. لأزرع فيه الورد من جديد .. وأغسل عنه الغبار  .. وأعيد البسمة لروحي التي أرهقها فرط الإنتظار .
فادية حسون

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق